سياسات التعليم العالي في دول الخليج العربية

علي أسعد وطفة
400 مشاهدات

مقدمة تنفيذية :

تتناول الورقة واقع التعليم العالي في دول الخليج العربي ومدى قدرته على التجاوب الحضاري مع معطيات التحولات والتغيرات الثورية الحادثة في مختلف الميادين والاتجاهات . ومن هذا المنطلق تقدم الورقة تحليلا عميقا لبنية هذا التعليم استكشافا لقدرته على المناورة والاستجابة الاستراتيجية للمستقبل بتحدياته المختلفة . ويتضح من خلال الورقة أن التعليم العالي الخليجي يعاني في مختلف مكوناته الاستراتيجية التي تتعلق باستقلال الجامعات وغياب الحريات الأكاديمية والانفصال عن الواقع وانتشار الفساد الأكاديمي كما أن هذا التعليم يعاني من عملية تسييس أيديولوجي شاملة . وهذا يدل على عقم السياسات التربوية في هذا المجال وعدم قدرته على التجاوب الحضاري مع تحديات المستقبل . ومن هذا المنطلق تقترح الدراسة العمل على إيجاد حلول سريعة وتقديم بدائل سياسية جديدة في ميدان التعليم العالي والجامعي . وتخرج الدراسة بمجموعة من التوصيات التنفيذية التي تشكل صيغة استراتيجية للخروج بالتعليم العالي من مأزقه ووضعه في المسارات الصحيحة . وتؤكد الدراسة على تمكين التعليم العالي والجامعي من الاستقلال والتمتع بالحريات الأكاديمية وإخراجه من عنق التسييس الجارف وتطوير استراتيجياته بصورة شاملة من أجل مواكبة المستقبل بمعطياته ومتغيراته المتفاعلة جدليا .


1- مقدمة:

إنه لمن الصعب تماما على الإنسان المعاصر أن يدرك اتجاهات التغير ومعدلاته في عالم تتخطفه وتائر التغير التكنولوجي المتسارع الناتج عن تقنيات الثورة الصناعية الرابعة التي بدأت تغير الطريقة التي نعيش ونعمل بها. فالعالم يثوّر رقميا والرقمية تتجذر في نسيج الوجود الإنساني على صورة رقميات ومصفوفات وخوارزميات مذهلة لا حدود لها. إذ لم يعد نقل المعلومات هو المجال الوحيد لمؤسسات التعليم العالي فالمعلومات تتدفق كالسيل في كل مكان من الكوكب في الأثير والأرض والفضاء وفي صفائح الكمبيوتر وبرامج الهواتف اللوحية وفي فضاء المنازل والشوارع ومحطات القطارات. وإذا كانت الجامعات سابقا تعمل على تزويد الطلاب بالبيانات والمعلومات فهي اليوم مطالبة بمعالجة البيانات الضخمة التي تزن ملايين الأطنان من المعلومات في اتجاهات تحويلها إلى طاقة معرفية تتسم بالذكاء.

لقد فرضت الوضعيات الثورية العاصفة للثورة الصناعية الرابعة على الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في البلدان المتقدمة تغييرا جوهريا في برامجها ووظائفها واستراتيجياتها. وبدأت هذه الجامعات تتخلى مكرهة عن وظائفها التقليدية ولاسيما هذه التي تقوم بإنتاج خريجين قادرين على شغل الوظائف التقليدية المتاحة في سوق العمل. فسوق العمل يشهد تغييرات جذرية مذهلة أقلها غياب كبير في الوظائف التقليدية وولادة وظائف جديدة مختلفة في مهاراتها ومتطلباتها. فالثورة الصناعية الرابعة تتطلب نوعا من الخريجين الذين يمتلكون الطاقة الإبداعية ويتميزون بقدرتهم على حل المشكلات المعقدة وممارسة التفكير النقدي المطلوب في سوق العمل والحياة في المستقبل القريب. ويتضح من خلال البحوث العلمية الجارية أن هذه القدرات والمهارات الجديدة قد أصبحت مطلبا حيويا يفرضه المستقبل الوظيفي للخريجين، ومن هذا المنطلق، وعلى مسار الاستجابة لهذا المطالب الحضارية يتوجب اليوم على الجامعات أن تعمل وفقا لاستراتيجيات جديدة متطورة ومختلفة إلى حد كبير ما عما عرفناه وعهدناه في المراحل التاريخية السابقة.

فالوظائف في العالم الجديد تنزع إلى الاختفاء والشركات تميل إلى الاندثار، وفي هذا العالم الجديد من المتوقع أن تهيمن الوظائف الجديدة المستقبلية للثورة الرابعة في العقود القليلة القادمة ولاسيما في مجالات: الذكاء الاصطناعي، وصناعة الروبوتات Robotics، وتكنولوجيا النانو Nanotechnology، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وعلم الوراثة، والتكنولوجيا الحيوية. ويتوقع أصحاب العمل والصناعات الحصول على مهارات تربوية تتمثل في القدرة على الإقناع، والذكاء العاطفي، والقدرة على تعليم الآخرين وتأهيلهم إنسانيا وأخلاقيا. لقد أدرك أرباب العمل بالفعل قوة الفنون الحرة في تحفيز ريادة الأعمال وتطوير “المهارات الفردية” والاستجابة لمتطلبات السلامة في عملية الإنتاج والتوزيع[1].

وفي مواجهة تحديات هذه الثورة المنفتحة على وعود ومخاطر كثيرة، فإن السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه بقوة هو: كيف يمكن للجامعات العربية والخليجية تحديدا أن تواجه هذه التحديات الكبرى؟ وكيف يمكن لمجتمعاتنا أن تواجه المشكلات الناجمة عن هذا التغير الهائل في معطيات الحياة والوجود التي تعتري المجتمع الإنساني؟ وما هي الاستراتيجيات الجديدة والمناهج المتجددة التي يمكنها أن يوظفها في مواجهة هذا المدّ الأسطوري للتغيير التكنولوجي والاجتماعي القادم؟ بصيغة أخرى اين هي جامعاتنا في سيناريو التفاعل مع الثورة الصناعية الرابعة وفي أي مستوى من المستويات الأربعة التي أشرنا إليها تقف هذه الجامعات وتفعل فعلها؟

2- إشكالية الدراسة وأسئلتها:

تشكل الثورة الصناعية الرابعة بمعطياتها الحضارية الجديدة تحديا إنسانيا لم يسبق له مثيل في التاريخ الإنساني وذلك لما تنطوي عليه من عناصر الجدة والإثارة والقدرة على تغيير طبيعة الأشياء، إذ تشكل إنها ثورة في كل شيء وعلى كل شيء يدور في فلك المجتمعات الإنسانية. ويمكن القول في هذا السياق إن مؤسسات التعليم العالي تواجه عالماً غيرت فيه التكنولوجيا طبائع الأشياء حيث تتقاطر إبداعات الإنسانية لتتجسد في ثورة الإنترنيت، والحوسبة السحابية، والطباعة الثلاثية، وإنترنيت الأشياء، وثورة النانو تكنولوجي، والثورة البيولوجية في عالم الأحياء، وصولا إلى ابتكار وسائل التواصل الاجتماعي، وتمثل هذه المعطيات الثورية للثورة الصناعية الرابعة فرصًا وتحديات مختلفة للأنظمة التعليمية الرسمية والخاصة ولاسيما في مجال التعليم العالي.

وإزاء هذا التدفق في الاندفاعات الخاطفة المتسارعة للثورات العلمية والتكنولوجية في زمن الثورة الصناعية الرابعة، يقف العلماء والباحثون – في كثير الأحيان – عاجزين عن تقديم تصورات واضحة عن الوظيفة الجديدة للتعليم العالي ودوره في الحضارة الجديدة أي في زمن الثورة الصناعية الرابعة. وإزاء هذا التسونامي الثوري في عالم المعرفة والحضارة والإنسان ثمة اسئلة جوهرية تطرح نفسها بقوة على المفكرين والباحثين، ومنها: كيف للتعليم العالي في دول الخليج أن يواكب هذا التدفق الثوري الهائل في مختلف ميادين الحياة العلمية والمعرفية ؟ وكيف له أن يتكيف مع هذه الطفرات الهائلة في ميدان التكنولوجية الرقمية والاندفاعات الثورية للمعرفة والعلوم التي تتجلى في كل أرجاء المكان وتعينات الزمان؟ هذه الأسئلة الاستراتيجية – وغيرها كثير – تشغل اليوم العلماء والمفكرين والباحثين والدول والحكومات والمؤسسات العالمية. ومما لا شك فيه أن عددا كبيرا من الباحثين ينصرف اليوم إلى لعمل على تشكيل نماذج مستقبلية وافتراضات حول التشكلات الجديدة للتعليم العالي في ظل هذه الموجات التسونامية للتغير في معالم الأشياء. فالجامعات اليوم مطالبة بمواجهة التوقعات المتعلقة بطبيعة التحديات المستقبلية بشكل خطير وجدي، ولاسيما الحاجة الواضحة إلى تغييرات جذرية في الاستراتيجيات والأهداف التعليمية.

5- كيف يمكن للجامعات أن تواكب التحديات المستقبلية :

تشكل تجارب المجتمعات المتقدمة في مجال التعليم العالي نموذجا ميدانيا ومعرفيا لطبيعة العلاقة بين الجامعات والتغيير الاجتماعي. لقد لعبت الجامعات الغريبة دورا كبيرا في توجيه مسارات الثورة الصناعية الأولى والثانية والثالثة وهي الآن تنجز دورها الفاعل في توجيه الثورة الصناعية الرابعة. ومن يتأمل في مسارات التقدم الحادث في العلوم والمعرفة سيرى أن دور هذه الجامعات لم يتوقف عند حدود الاستجابة لشروط الثورات الصناعية والعلمية بل كانت منتجة لها وفاعلة في حركتها ودينامياتها عبر البحث العلمي والمشاركة الحيوية في تطوير العلوم والفنون والتكنولوجيا. إن التحدي الذي يواجه الجامعات الغربية ليس في أي حال من الأحوال الاستجابة للثورة الصناعية الرابعة بل هو الكيفية التي تسهم بها هذه الجامعات في انتاجها معرفيا وتكنولوجيا. فالإنتاج المعرفي للجامعات الغريبة ودوره في تغيير العالم والانتقال به إلى فضاءات جديدة متجددة يشكل الهاجس الحضاري والمعرفي لهذه الجامعات.

وغني عن البيان بأن هذه الجامعات تمتلك في ذاتها القدرة على المشاركة بما تمتلك عليه من سمات وخصائص وهيكليات وفلسفات وممارسات أكاديمية متميزة ومتكاملة تسمح لها بأداء وظيفتها التاريخية في مستوى النهوض الحضاري بمجتمعاتها. وممالا لا شك فيها أن هذه الجامعات تتميز بمنظومة من السمات والخصائص العلمية التي تمنحها القدرة على المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية وإبداع مساراتها العلمية، ومنها:

أولا – تحظى هذه الجامعات باستقلالها الكامل إداريا وعلميا وماليا وأكاديميا ولا توجد أي سلطة خارجية يمكنها أن تؤثر في حركتها ونشاطها .

ثانيا – تتمتع هذه الجامعات بالحريات الأكاديمية الكاملة لأعضائها وطلابها وتتميز بحياة حرة ديمقراطية واسعة.

ثالثا- تمتلك هذه الجامعات فلسفات علمية واضحة تركز على نشر المعرفة والابتكار والإبداع العلمي .

رابعا – تمتلك هذه الجامعات تفاعلا مستمرا ودائما مع الوسط الاقتصادي والمعرفي والانتاجي في المجتمعات التي تحتضنها إذ غالبا ما تكون شريكا فاعلا في عملية تطوير المجتمع والمشاركة في عملية الانتاج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

خامسا – غالبا ما ترتبط هذه الجامعات بالمشروعات، الوطنية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية بصورة دائمة ومستمرة.

سادسا- تسعى هذه الجامعات إلى تصفية كل أشكال التعصب والعنصرية والأمراض الاجتماعية وتعمل على تخريج أجيال من المفكرين المبدعين في كل ميدان وفي كل حقل علمي.

سابعا – استطاعت هذه الجامعات أن تنتقل كليا من وظيفتها المعلوماتية إلى وظيفتها المعرفية حيث تركز على إنتاج المعرفة وليس على نقلها وتوزيعها .

ثامنا – من أجل تحقيق الفاعلية الكبرة فإن هذه الجامعات تعتمد أنظمة داخلية فعالة ودقيقة تعتمد على تطوير المناهج والأساتذة والبنى الهيكيلة وتجعل المهمة الأساسية للجامعة في عملية بناء المعرفة وتطوير البحث العلمي.

تاسعا – كل شيء في هذه الجامعات يخدم البحث العلمي والانتاج المعرفي الذي يشكل غاية الغايات ومنتهى كل فعالية في هذه الجامعات وتخصص للبحث العلمي ميزانيات كبيرة جدا بكل المقاييس.

عاشرا – تركز هذه الجامعات على الشراكات المجتمعية وتعتمد مبدأ التنافس العلمي مع الجامعات المناظرة من أجل تحقيق التقدم العلمي في كل ميدان.

هذه هي العناصر الأساسية التي جعلت من هذه الجامعات رافعات حضارية منتجة للعلم والمعرفة وتلك هي المؤشرات التي يمكن أن نعتمدها في تحديد فعالية جامعاتنا العربية والخليجية. والسؤال الذي يطرح نفسه إلى أي حد استطاعت فيه جامعاتنا العربية والخليجية أن تحقق هذه الشروط الحضارية للفعالية الأكاديمية التي نشهدها في المجتمعات المتقدمة.

6- المؤشرات الأساسية لفعالية التعليم العالي والجامعي في دول الخليج العربي:

يوجد منهجيا نسق كبير من المتغيرات والمؤشرات البنيوية التي يمكن أن تعتمد في تحليل المؤسسات الأكاديمية وفهم مكوناتها ودراسة فاعليتها. وغالبا ما يعول على هذه المؤشرات في فهم آليات اشتغال الجامعة ومدى فعاليتها الوظيفية وقدرتها على الأداء الأكاديمي في مجتمعاتها. وغالبا ما يعتمد الباحثون على منظومتين أساسيتين في تفحص الأداء الجامعي يطلق على الأول الكفاءة الداخلية وعلى الثاني الكفاءة الخارجية للمؤسسات الأكاديمية. ويقصد بالكفاءة الداخلية منظومة الفعاليات التي تتم في داخل الجامعة وبين مكوناتها (الأستاذ، الطالب، المناهج ،البنية التحتية، الإدارة ـ الاستراتيجيات، والبحث العلمي )، ويقصد بالكفاءة الخارجية للجامعة قدرة الجامعة على التأثير في وسطها الخارجي في مجال السوق والعمل والابداع والابتكار ونوعية الخريجين وفاعليتهم. ومما لا شك فيه أن الفاعلية الخارجية تعتمد بالضرورة على الفاعلية الداخلية التي تتمثل في مفهوم جودة التعليم.

1-6- ضعف الإنتاج العلمي والمعرفي:

يمثل الإنتاج العلمي الوظيفة المركزية الأساسية للجامعات ومؤسسات التعليم العالي فالجامعات هي قاطرات التاريخ والرافعات الحضارية للأمة وتقاس فعالية أي جامعة بمدى قدرتها على المساهمة في الإنتاج المعرفي والعلمي وبمدى قدرتها التنافسية في هذا المجال. تعمل أغلب الدول المتقدمة تعمل مؤسسات البحث والتطوير على متابعة أنشطة البحث والتطوير الصناعي، التي تعتمد بشكل أساسي على الاختراعات والابتكارات التكنولوجية كترجمة وتحويل المعلومات والمعارف الناتجة عن علم إلى منتجات وعمليات مفيدة .[2] وهذا يعني أن هذه الدول تحول المعرفة إلى قوة انتاجية وتعتمد على ما يسمى باقتصاد المعرفة من حيث استثمار المعرفة في التنمية والاقتصاد والابتكار. ويمكن قياس الفعالية العلمية في مجتمع ما من خلال مؤشرات عديدة أهمها ” نسبة الإنفاق على برامج البحث العلمي والتطوير من الناتج القومي، ومنسوب النشر العلمي والتنوع في المجالات البحثية، ومدى التقدم في مجال إنتاج براءات الاختراع، وعدد إعداد العاملين بالبحث العلمي، وإعداد دورات تدريبية ودورات تعليمية (تعلم نقل المعرفة التكنولوجية). [3]

وتبين لنا نظرة خاطفة أن الجامعات الخليجية، على الرغم من الوفرة الاقتصادية التي تتميز بها مجتمعاتها، تعاني كثيرا في مجال الإنتاج العلمي، وإن معظم الميزانيات تنفق على الوظائف والمنشآت وعمليات التدريس، ويتضح ذلك من خلال الضعف الكبير في الميزانيات المخصصة للبحث العلمي في هذه الجامعات وفي مجتمعاتها.

 تبين الإحصائيات المتعددة أن الإنفاق على البحث العلمي في دول الخليج ضعيف جدا بالمقارنة مع الدول المتقدمة والنامية أيضا، إذ لا يتعدى صرف دول مجلس التعاون على البحث العلمي أكثر من 0.2 في المائة (اثنين في الألف) من الناتج القومي، بينما النسبة في الدول المتقدمة تصل إلى 3 في المائة (ثلاثة في المائة) من الناتج القومي، وقد بلغ معدل الانفاق العالمي على البحث العلمي وتطوير التعليم في الدول المتقدمة حسب تقارير البنك الدولي بين 2 الى 3 في المئة من ميزانيات الدول. وتعد ميزانية البحث العلمي في أميركا 2.6 في المئة من الدخل القومي وفي الهند 0.9 في المئة وتتراوح في كوريا وماليزيا وسنغافورة بين 5.2% إلى 3 %. ([4])

وبينما تتراوح نسب الانفاق في دول مجلس التعاون ما بين 0.1 % الى 0.2 % عدا قطر التي بلغت 2.8%وهي دول تمتلك انتاجاً واحتياطاً نفطياً ضخماً عالميا، نجد ان دولا معدومة او محدودة الموارد كإسرائيل تنفق 4.7% %من الناتج المحلي -وهي اعلى نسبة عالميا- وفنلندا 3.8 % واليابان 3.6 %وسنغافورة 2.6 %وتايوان 4.2 %أما من حيث قيمة الانفاق فحازت الولايات المتحدة المركز الأول بحجم إنفاق 423 مليار دولار، تليها الصين بـ220 ملياراً، ثم اليابان بـ161 ملياراً، ثم ألمانيا بـ91 ملياراً. [5]

هذه المؤشرات الإحصائية تدل على ضعف كبير في مستوى الأداء العلمي للجامعات ومراكز البحوث الخليجية. وكثير من الباحثين يرون أن الجامعات الخليجية تركز على التدريس وليس على البحث العلمي فهي أشبه بمدارس ثانوية كبرى لا يأخذ فيها البحث العلمي الأهمية التي يجب أن يحظى بها في دول ميسورة اقتصاديا.

2-6- استقلال الجامعات الخليجية:

لا تمتلك الجامعات الخليجية الحكومية كما هو حال الجامعات العربية استقلاليتها الإدارية أو المالية أو العلمية حتى. فهي تابعة لوزارات التعليم العالي وتخضع لشروطها وقوانينها ولا تمتلك أي استقلالية ذاتية. وتخضع هذه الجامعات لسياسات الدولة وحكوماتها وتتميز بمركزية شديدة فالوزير هو الذي يعين رؤساء الجامعات ومجالسها ورؤساء الجامعات يعينون عمداء الكليات والعمداء يعينون رؤساء الأقسام.[6] وليس للجامعات أي صلاحية في اتخاذ قرارات استراتيجية تتعلق بالأنظمة أو التغييرات أو الاستراتيجيات. ويصف هاشم المدني هذه الحالة في الجامعات الخليجية بقوله: إن قرارات تعيين رؤساء الجامعة تصدر من الجهات العليا، وما إن يعين الرئيس حتى تهفو عينه إلى الوزارة. وما دون الرئيس من تعيينات يكتنفها كثير من الغموض، وتكاد تكون مجافية للشفافية. ولعل من أهم السمات التي ترفع وتخفض من حظ المرشحين لمثل تلك التعيينات الجامعية تكمن في توجهات المرشح السياسية، والفكرية، ومدى قدرته في تضخيم الإيجابيات للمسؤول والتغافل عن السلبيات، دونما اعتبار عادل لكفاءة المرشح. والكلام على وجه العموم لا الشمول الكلي. [7]

وفـــي هذا السياق تؤكد الدراسات الميدانية الجارية في هذا السياق ولاسيما دراسة ندى أبو حميد (2007م)[8] ودراسة مها الشريف (2015م) [9] إلى ضعف الاستقلال الذاتي للجامعـات الـسعودية. ويتضح هذا بالقيود الكبيرة المفروضة على الإدارات الجامعية و يتجلى أيضا في الاعتماد الكبير على ميزانية الدولة، و ضـعف حريـة الجامعـة في المناقلة بين أبواب الميزانيـة، وحقهـا فـي الاسـتفادة مـن فـائض الميزانيـة السنوية التي تقررها الدولة، كذلك ضـعف حريـة الجامعـة فـي وضـع سياسـاتها باستقلال تام ومراجعتها نظامها بصفة دورية، ويلاحظ غياب الحريات الأكاديمية حيث لا يحق لأعضاء هيئـة التـدريس والطـلاب اختـار قياداتهم الأكاديمية. ولا “يتمتع القـائمون علـى إدارة الجامعـة بالـسلطات اللازمـة لتحديـد طبيعـة الشراكات الأكاديميـة مـع المؤسـسات الخارجيـة المنـاظرة التـي تـرتبط معهـا “

3-6 – الحريات الأكاديمية:

وضمن هذه المركزية الإدارية تغيب الحريات الأكاديمية لأن الحريات الأكاديمية مرتبطة باستقلال الجامعات وحريتها في إدارة نفسها عبر مجالسها المنتخبة. فالحق الأول في انتخاب القيادات الجامعية غائب وينبني عليه غياب جميع الحريات الأكاديمية في التأليف والترجمة والنشر. فالأستاذ الجامعي ضمن هذا السياق لا يعدو أن يكون موظفا في الجامعة يقوم بالتدريس وهو منفصل عن مهمته العلمية المتعلقة بالإنتاج العلمي.

ومن الواضح أن الجامعات العربية والخليجية تعمل على تضييق الحريات الأكاديمية ومحاصرة أعضاء الهيئات التدريسية بقيود الرقابة والمحرمات والمقدسات إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها الأستاذ الجامعي التعبير عن آرائه بحرية، فالأستاذ الجامعي أصبح اليوم يخاف من النقد ويخشاه واصبح مروضا على قبول الواقع بروح استلابية اغترابية واصبح غير قادر ولا يجرؤ على نقد السلبيات الاجتماعية والاقتصادية والفساد السياسي، بعد أن تمّ ترويضه على القبول الصاغر لكل سلبيات الحياة الاجتماعية.

إن “العلة الرئيسية التي تعرقل انعتاق الجامعات – كما يقول الدكتور خالد الدخيل – هو غياب حرية الفكر، والبحث العلمي، وتداخل المنهج العلمي الرصين والفكر الديني الذي يفاقم مشكلة غياب حرية الفكر والبحث. ومن المعروف أنه من دون هذه الحرية لا يمكن للجامعات أن تصبح كذلك، وأن تنهض بالدور المتوقع منها. وعندما تفقد الجامعة استقلالها وتصبح مجرد مؤسسة بيروقراطية، يضاف إلى ذلك غياب حرية الفكر والبحث، وحرية الحصول على المعلومة، لا تنتظر من الجامعة أكثر مما هي عليه، حتى ولو تحسن وضعها المالي. [10]

ويتحدث عبد الهادي ناصر العجمي عن الحريات الأكاديمية في الخليج العربي فيقول: ” لقد شهدنا في العقدين الأخيرين نزوعًا متزايدًا لتقويض الحريات الأكاديمية واستقلال الجامعات وتقييدها، استند إلى أن المشهد الخليجي مشهد مختلف يعج بالمتغيرات والموروثات الثقافية والدينية والمتناقضات الاجتماعية، بل والصراعات الأيديولوجية التي يحتويها”[11] ثم يتابع قوله :”في أنموذجنا الخليجي تعمل الحريات الأكاديمية تحت ضغط صور مختلفة من التضييق والتعسف، بدءًا من الرقابة والقيود الإدارية والقانونية وعدم التعاون من طرف السلطات، وصولًا إلى عمليات القمع وربما الاعتقال التي من الممكن أن يُلجأ إليها في بعض الأحيان تجاه أعضاء هيئات التدريس إن رأى بعض الجهات الأمنية ضرورة لذلك، أو وقفًا لاستمرار سياسة تراها هذه الجهات لا تتوافق مع تصوراتها ولا تخدم مصالحها ” [12]. والحوادث كثيرة جدا ولا ضرورة للإشارة إليها في هذا السياق.

وفي هذا السياق يوجه كثير من الأكاديميين في الخليج نقدهم الواسع لمظاهر المركزية في إدارة الجامعات ومنع هذه الجامعات من الحصول على استقلالها الحقيقي، ونجد مثل هذا النقد العنيف لدى عبيد سعد العبدلي الذي يقول: جامعاتنا ثانويات كبيرة يقودها موظفين يطبقون ما يعتقدونه صحيحا، الجامعات الجيدة تُديرها أقسامها الأكاديمية. عندما يكون قرار القسم الأكاديمي أقوى من قرار مدير الجامعة، هنا نقول هذه الجامعات الصحيحة؟ [13]

ونحن لا نعرف حقا كيف نتحدث عن تطور في التعليم العالي لا يكون شاملا يعم مختلف الجامعات ومؤسسات التعليم العالي . التطور لا يكون بجامعة مصنفة بل بعملية صميميّة بنيوية تشمل مختلف تكوينات التعليم العالي وأجهزته . إن وجود جامعة أو عدة جامعات متقدمة بأكاديميين جلهم من الأجانب وبأنظمة ليست وثيقة الصلة بنظامنا التعليمي أمر جيد فيما لو استطعنا الاستفادة منه كنموذج لتطوير تعليمنا العالي . ولكن مهما تكن صورة هذا التعليم فإنه لا يشكل برأينا أكثر من مظهر من مظاهر الزينة التي اعتدنا عليه في مجتمعاتنا . فكفانا تبجحا بوجود هذه الجامعات التي لا تسمح أنظمتها حتى للأساتذة الجامعيين الخليجين أو العرب العمل فيها . إنها أنظمة جامعية منفصلة عن نظامنا القائم لا تجانسه في أي من مكوناتها .

4-6- تسييس الجامعات الخليجية:

ومما لا شك فيه أن تسييس الجامعات الخليجية – وحالها لا يختلف كثيرا عن حال الجامعات العربية – قد لعب دورا كبيرا في إفراغ الجامعة من الحريات الأكاديمية التي يجب أن تتمتع بها وأن تنطلق من مظلتها في تحقيق رسالتها العلمية. ويتضح جليا عبر الرصد السوسيولوجي أن الجامعات الخليجية مسيسة جدا وهذا يعني أنها خاضعة للتدخل السياسي، أو أنها مصدومة بقوة التيارات السياسية التي جعلت من الجامعة ساحا للصراع بين القوى السياسية من أجل السيطرة على الجامعة وتحويلها إلى مصادر للدعم السياسي أو إلى موارد سياسية للتيارات والقوى السياسية. ويمكن ملاحظة نشاط التيارات السياسية المبطنة الخفية المتكتمة تحت تسميات مدنية كالتجمعات والنقابات والتيارات والمؤسسات الخيرية التي تشكل أذرعة هذه القوى السياسية في السيطرة والهيمنة على الجامعات بطلايها وموظفيها وإدارييها واساتذتها. فتسييس الجامعات مرض عضال يضرب أوصال هذه الجامعات ويصيبها في مقتل علمي، ويحولها إلى أشلاء ركامية خاوية من المعنى والدلالة. وفي هذا الأمر يقول رئيس جامعة فيلادلفيا الدكتور مروان كمال في هذا السياق مؤكدا على خطورة تسييس الجامعات: إن تطوير الجامعات يبدأ من عدم تسييسها واستقلالية إدارتها وأمنها ‏الجامعي، ودعا إلى إبعاد السياسيين عن الجامعات وعدم تدخلهم ‏في التعليم، حيث إن الجامعات التي تدار من داخلها ومن إدارتها الأكاديمية هي الجامعات التي يمكنها أن تحقق نجاحها المعرفي والعلمي”.[14]

ويقينا، تشكل عملية تسييس النظام التربوي وأدلجته إحدى الكوارث التي ابتُلِي بها المجتمع والتربية في الخليج العربي كما هو الحال في البلدان العربية. لقد تحوّلت المؤسسات التعليمية إلى ساحة للصراع بين التيارات السياسية المختلفة: الليبرالية منها والدينية. ويتركّز هذا الصراع على المناهج والسياسات التربوية. ولا مراء في أنّ هذا التسييس أفرغ العملية التربوية من محتواها في مختلف مستويات التعليم في بعض الدول الخليجية. ويقول باقر النجار في توصيف هذه الأزمة: “تحولت وزارات التعليم من بداية الثمانينات إلى محميّات حزبية تتصارع عليها التيارات السياسية بأطيافها المتنوعة (قومية ـ إسلامية ـ ليبرالية)، وسيطرة البعض وفرضه الهيمنة الثقافية على محتوى المناهج وهويتها التربوية”[15].

فكلّ تيّار سياسي يريد أن يفرض أفكاره وتصوراته ورمزياته وأيديولوجيته في التعليم بمختلف مستوياته من الروضة إلى التعليم العالي. وتكمن خطورة هذه الهيمنة الأيديولوجية في أنها من نصيب التيارات التقليدية التي تعادي كلّ تقدم أو حراك تربوي يتّجه إلى المستقبل، وقد أفرغ هذا الطابع الأيديولوجي التعليم من مضمونه، ودمّر كل مقوّماته الإنسانية والأخلاقية، وجعله هشا ضعيفا غير قادر على مواكبة العملية التنموية.

وننتهي هنا إلى القول بأن التسييسس الأكاديمي للجامعات يضعف من قدرة هذه الجامعات على تطوير نفسها وممارسة دورها الحضاري. ولا يمكن لنا في أي حال أن نتصور أن جامعات مسيسة ستكون قادرة في يوم من أليام على مواجهة مصيرها ومصير مجتمعاتها. وهذا التسييس الذي لاحظناه من خلال آراء المفكرين وملاحظاتنا الأكاديمية يوحي بأن الجامعات الخليجية لا يمكنها على هذه الصورة من ممارسة دورها المطلوب في زمن الثورة الصناعية بتحدياتها الرهيبة.

5-6- مخرجات الجامعات وسوق العمل في الجامعات الخليجية:

إذا كانت الوظيفة المعرفية للجامعة تحتل مركز الصدارة في الأداء الأكاديمي للجامعة فإن تلبية احتياجات المجتمع من العمالة والخبرات العلمية والفنية والتكنولوجية تمثل الوظيفة الثانية الموازية من حيث الأهمية والخطورة. فخريجو الجامعات يشكلون الدماء التي تضخها الجامعة في المجتمع وإذا كانت هذا التدفق فاسدا فسد المجتمع برمته.

ويلاحظ تاريخيا أن الجامعات المتقدمة لم تقف عند حدود الاستجابة لمطالب السوق الاقتصادية بل كانت تلعب دورا فاعلا في رسم سياسات واتجاهات الحياة الاقتصادية بوصفها شريكا في فاعلا في تجديد وابتكار مختلف أشكال التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا يعني أنه يتوجب على الجامعات أن ألا تكون مجرد ناقل ساذج للمعرفة ومزود لها بل يجب أن تكون شريكا في عملية تغيير المجتمع وابتكار حركته والمشاركة في نهضته. وهذا يعني أنه يجب ألا تكون استجاباتها سلبية رهنا لحركة الأسواق وإيقاعات المطالب على القوى البشرية المؤهلة. واقل ما يمكن للجامعات النشطة أن تتنبأ على الأقل بالمسارات الجديدة للحياة الاقتصادية والاجتماعية وأن تكون على أهبة الاستعداد للتجاوب تجاوبا فاعلا نشطا مع حركة السوق الاقتصادية والاحتياجات العلمية والوظيفية لسوق العمل.

وتكفي نظرة خاطفة على مؤسساتنا وجامعاتنا الخليجية والعربية أن ندرك حجم المأساة التي تتعلق بقدرة الجامعات على التفاعل مع سوق والاستجابة لمتطلباته الحيوية. فالجامعات الخليجية تدفع بأعداد هائلة من خريجيها غير المؤهلين إلى سوق العمل بطريقة اعتباطية فوضية لا تقوم على تخطيط مسبق وممنهج. فهذه الجامعات أعدادا كبيرة من الخريجين الذين تنقصهم المهارات الحقيقية المطلوبة في سوق العمل، كما أنها تطرح أعدادا كبيرة من خريجيها في مجالات تعاني من فائض مخيف في سوق الوظائف والعمل. وضمن هذه الصيرورة تلعب هذه الجامعات دورا سلبيا في الحياة الاجتماعية، وتلد مشكلات هائلة في المستويات الاجتماعية أخطرها البطالة الكبيرة في أسواق العمل، ويضاف إلى ذلك البطالة المقنعة التي تؤدي بدورها إلى كم كبير من المشكلات الاجتماعية والسياسية. وهذا التدفق للخريجين غير المنظم وغير المؤهل يكون دائما على حساب موارد هذه البلدان واقتصادياتها.

ونخلص في هذه المداولة العلمية أن الجامعات الخليجية ليست على وفاق مع سوق العمل واحتياجاته الطبيعية العادية والآنية. والسؤال كيف يمكن لهذه الجامعات أن تتجاوب مع مطالب الثورة الصناعية الرابعة التي تبشر بتغييرات اسطورية في ميدان العمل. وإذا كانت هذه الجامعات لم تستجب حتى الآن لمطالب الماضي والحاضر في مجال سوق العمل فكيف يتسنى لها أن تتجاوب مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة بتحدياتها الهائلة ولاسيما في مجال العمل والعمالة؟ أي في مرحلة قرية ستختفي فيها أكثر من 70% من الوظائف التقليدية المرشحة للانقراض التي ما تزال جامعاتنا منهمكة في إعداد الطلاب لها؟

وتأسيسا على ما تقدم من مناقشات وتصورات ووقائع يتوجب علينا القول أنه يجب على دول الخليج العمل على مواجهة تحديات العلاقة بين مخرجات التعليم العالي وربطها بعملية التنمية الاقتصادية والبشرية على نحو فعلي ومنظم واستراتيجي، كما يتوجب عليها أن تنتهج سياسات تربوية نشطة تهدف إلى هدم الفجوة بين التعليم وسوق العمل وإلى تمكين التعليم العالي من التجاوب مع تحديات المرحلة القادمة والاستجابة لمتطلبات التنمية والتنمية المستدامة وهذا التفاعل بين الجامعات وسوق العمل يشكل منطلقا لكل سياسة تربوية تريد النهوض بالمجتمع ومواجهة التحديات الحضارية. وهذا يعني في نهاية الأمر أنه يترتب على الجامعات الخليجية أن تأخذ مسارا نهضويا متطورا يواكب المتطلبات الحيوية الاقتصادية والاجتماعية التي تفرضها الثورة الصناعية الرابعة.

6-7- الفساد الأكاديمي:

يعد ملف الفساد الأكاديمي في الجامعات العربية والخليجية من أخطر الملفات على الاطلاق. إذ تطالعنا مئات الدراسات والبحوث بأن منسوب الفساد يصل إلى درجاته العليا في الجامعات العربية كما هو الحال الجامعات الخليجية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الملف الخطير الكبير للشهادات المزورة وللجامعات الوهمية التي شغلت الأفراد والحكومات في الخليج العربي وفي البلدان العربية. فالدراسات تؤكد وجود آلاف الشهادات المزيفة والمزورة وآلاف أخرى من الشهادات الافتراضية التي لا وجود لها في حقيقة الأمر كنتاج طبيعي لصدورها عن جامعات وهمية. ومن المؤسف له أن الحكومات في الخليج لم تتمكن حتى اليوم من اجتثاث هذه الظاهرة التي استشرت في جسد الحياة الأكاديمية والاجتماعية في جامعاتنا الخليجية والعربية. وهناك بالإضافة إلى ذلك ملفات السرقات العلمية التي تتكاثف وتتكاثر وتنتشر بطريقة مخيفة في مختلف الجامعات العربية ومنها الجامعات الخليجية. وهناك أيضا ملفات تتعلق بالتسييس والرشاوى والتحرش والتعصب وغيرها كثير جدا.

يصف ربيعة الكواري (أستاذ الإعلام بجامعة قطر ) الفساد في الجامعات الخليجية وصفا مخيفا في مقالة له نشرت على الشبكة ضمن منديات شبكة الأسهم القطرية في عام 2009، ولسنا عن هذا التاريخ ببعيدين جدا. يصف الكواري هذه الظاهرة الخطيرة بالقول: ” المؤسسات الأكاديمية والجامعات في منطقة الخليج هي من أكثر الأماكن والمؤسسات انتشارا في تفشي الفساد وتعاطي الرشوة.. وهذه الظاهرة موجودة منذ عشرات السنين ولا يمكن إنكارها.. ورغم أن عمر التعليم الجامعي في المنطقة ما زال قصيرا إذا ما قيس بجامعات العالم الأخرى”. [16]

ويرى الكواري أن هذا الفساد الأكاديمي يتجلى في المظاهر التالية: [17]

انتشار ظاهرة الرشوة بين الطلبة وبعض أعضاء هيئة التدريس.

— الشللية في انتقاء واختيار أعضاء هيئة التدريس العرب والأجانب للتدريس في الجامعات.

— تزوير بعض الشهادات والدرجات العلمية والتلاعب في السيرة الذاتية لأعضاء هيئة التدريس وتضخيمها وإعطاء معلومات مزورة وكاذبة بهدف الالتحاق بجامعات الخليج [18].

— الفساد المالي في أغلب جامعات الخليج وهي ظاهرة قديمة ولكنها ما زالت موجودة هي “الكتاب الذي يدرس للمقررات الدراسية” حيث يقوم مؤلف الكتاب بفرضه على الطلبة والسبب أنه صاحب المادة التي يدرسها— ما يحدث – الفساد الإداري أن رئيس القسم يؤتى به من الطائرة الى الكرسي عن طريق ترشيح يقوم على المصالح الشخصية وقد يكون هذا الترشيح مدفوع الثمن “برشوة مالية” لا تعرف عنها الجامعة أي شيء [19].

وهناك فيض متدفق من الدراسات والمقالات الصحفية التي نشرت خلال العقدين الماضيين عن الفساد المتجذر في الجامعات العربية والجامعات الخليجية. وهذا الموضوع واسع وشائك جدا وملفاته كثيرة وما أوردناه يأتي في سياق التأكيد على أن الفساد الأكاديمي يفرغ الجامعات الخليجية من مضمونها ويجعلها غير قادرة على مواكبة الحاضر والمستقبل ولاسيما مستقبل الثورة الصناعية الرابعة اليت هي موضوع بحثنا واهتمامنا في هذه الدراسة.

7- الخروج من المأزق الحضاري- نحو  استراتجيات الانطلاق :

إن أول خطوة يجب على القائمين على السياسات التعليمية في دول الخليج العربي على دروب الإصلاح هي الإقرار العميق بتخلفنا وجامعاتنا عن الحركة الحضارية للعصر الجديد يجب أن نعترف بتخلف جامعاتنا وتصدع مقوماتها وترهل بنيتها وتداعي وظائفها العلمية دون خجل أو تردد أو وجل. ومن غير هذا الاعتراف سيصبح من الاستحالة بمكان الانطلاق نحو الإصلاح الجذري. إن عدم الاعتراف بقصور جامعاتنا ونظامنا التعليمي وعدم الإقرار بضعفه وترهله يعني الاستمرار في تجرع الأوهام والاستمرار في تدمير مقومات وجودنا. لقد اعتاد مسؤولو التعليم العالي على الخطاب التمجيدي بسياسات التعليم وألفوا أنشودة القول بأننا نحقق سبقا حضاريا في كل شيء في التعليم والتعليم العالي والاقتصاد وهذا الأمر يشكل خطرا كبيرا سينتهي بنا إلى الغرق في مستنقعات التاريخ والحضارة . يجب على المسؤولين في بلداننا أن يتخلوا عن أهوائهم وأن يسقطوا أوهامهم وأن يقفوا وقفة جريئة نقدية ليقولوا لنا أننا في القاطرة الأخيرة من حركة النهوض الحضاري وأن أوتاد هذه القاطرة قد تنقطع وتتقطع بنا ما لم نشد العزم ونسرع إلى العمل على تقوية وشائج صلتها بقاطرات التاريخ الحضاري للإنسانية . ولا بد لنا من أي محاولة للنهوض من الاعتراف بأن أوضاع جامعاتنا مترهلة متردية وغير قادرة بصورتها الحالية على مواكبة الركب الحضاري وغير قادرة على المشاركة في مستقبل الأمة بما هي عليه من قصور وضعف في مختلف تكويناتها البنيوية والوظيفية.

وعلينا ثانيا أن نتخلص من أوهامنا ولاسيما الأوهام الاستراتيجية التي نعول عليها كثيرا وكثيرا. وأخطر هذه الأوهام أوهام الخطط الاستراتيجية المدبجة على الورق المقوى وفي صفحات الشبكة العنكبوتية مثل: رؤية التعليم العالي في عام 2030 وعام 2035 وقد أصبحت هذه الرؤى والخطط موضة في الخليج متشابهة الأركان. هذه الخطط لم ترى النور يوما ولم تطبق في الواقع ولم تحرك ساكنا، وقد ألف الناس والمتخصصون ترديدها وهم قد لا ينتبهون إلى أن الفاصل بيننا وبين 2030 بضع سنوات قليلة وأن هذه الخطط لم تخرج بعد من أدراجها هنا وهناك وإنني أقول في هذه المناسبة .

 ويجب علينا أن نتخلى عن وهم التصنيفات التي ينفق لها مئات الملايين هباء من أجل أن نقدم صورة مرضية عن أنفسنا ببعض التصنيفات الجامعية وكأننا نرضي في داخلنا الإحساس بالهزيمة والسؤال ما معنى أن تكون لدينا بعض الجامعات المتقدمة المصنفة ضمن الجامعات المتقدمة وفي مقابل ذلك نظامنا التعليمي وجامعاتنا غارقة في مستنقع التخلف والخذلان الأكاديمي. جامعات لا تتمتع بأي استقلال أو حريات أكاديمية وليس لها أي وزن في الإنتاج العلمي ولا تعدو وظيفتها أن تكون أكثر من الدفع بآلاف الخريجين إلى سوق العطالة بلا مهارات أو قدرات حقيقية.

وهنا ايضا علينا أن نتحرر من وهم الجامعات الخاصة التي يراها كثير من المسؤولين حصانا طرواديا للخروج من مأزق التعليم الجامعي واختناقاته، فما أكثر هؤلاء الذين يعلقون آمالهم على هذه الجامعات ويرون أنها تحمل في طياتها آمالا ووعودا، إذ هي كما يزعمون تمتلك برامج حيوية يمكنها أن تحدث فرقا في عملية النهضة العلمية في البلاد. ونحن نقول إن تعليق الآمال على الجامعات الخاصة أكبر أوهامنا إطلاقا وأكثرها خسفا بنا، فهذه الجامعات ليست إلا وبالا على وبال. فهذه الجامعات تنافس الجامعات الحكومية في إنتاج في إنتاج الكمّ لا الكيف وتوزيع الشهادات يمنة ويسرة وهي في المبتدأ والخبر ليست أكثر من مؤسسات ربحية بالمطلق لا ترتبط بأي مشاريع تنويرية أو تنموية وهي ليست جامعات أصيلة نبتت في تربة هذه البلدان إنها مشاريع استثمارية تريد أن تحقق أعلى نسبة ممكنة من الأرباح على حساب تطلعات الشباب في المجتمعات الخليجية وغيرها من المجتمعات.

ويقينا أنه لا يمكن للمجتمعات الخليجية أن تنطلق إلى المستقبل بجامعات مسيسة حتى العمق ومتآكلة سياسيا حتى الثمالة، ومن المؤكد أنه لا يمكن لنا أن نعول على جامعات تحكمها ايديولوجيات سياسية متعسفة منغلقة يهدف أصحابها إلى الهيمنة والسيطرة ، ونحن على يقين أيضا أن جامعاتنا متخمة بالأيديولوجيات الفكرية والحزبية وأنه لا يمكن لجامعة مسيسة ومؤدلجة أن تكون منصة حضارية .

يجب أن نعترف أن الفساد ينتشر ويعم في داخل الجامعات والأكاديميات وهذا يوجب على السياسيات التعليمية أن تقر به وأن تنطلق نحو اجتثاث هذا الفساد الذي عمّ وانتشر وتغلغل في حنايا المؤسسات الأكاديمية من تجاوزات وسرقات وشهادات مزورة وتعيينات وتوظيفات وقصور وظيفي في مختلف هذه التكوينات .

والقائمة في هذا الميدان تطول لتسمل مختلف مكونات المؤسسات الأكاديمية في وظائفها العلمية والمجتمعية . يجب أن نتناول هذه مكونات هذه المؤسسات الأستاذ والطالب والمناهج والإدارة والاستراتيجيات والبحث العلمي وأن نبحث في مواطن الضعف والقوة فنجعل القوة أكثر قوة ونحول الضعف إلى قوة حقيقية لا يستهان بها .

 وعندما نعترف بكل مواطن الضعف والقصور ونقر بها نستطيع أن نبدأ العمل لوضع استراتيجيات فعالة ميدانية حقيقية غير وهمية ولا تنتمي إلى الاستراتيجيات الديباجية الإعلامية . ومثل هذه الاستراتيجية لا تحتاج إلى تعقيد لقد أصبحت واضحة كالشمس لأننا عنندما نشخص الأدواء يسهل معالجتها وتصفية عناصر قوتها . وإننا في هذا السياق نرى أنه يتوجب على دول الخليج أن تنهج نهجا واضحا وفاعلا وعمليا إذا أريد لجامعاتها أن تشكل منصة حضارية إلى المستقبل . والخطوات الأساسية المركزية التي يجب أن تتخذ ولا محيص عنها ابدا هي كالآتي :

1- أن تتبنى الدول الخليجية مشروعا حضاريا ينطلق من التأكيد على دور الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي.

2- منح الجامعات استقلالها الكامل ماليا وإداريا وأكاديميا ويجب أن يكون استقلالا حقيقا لا انتقاص فيه. أن تثق الحكومات الخليجية في الجامعات المحلية وتعدها “رافعات تنموية”.

3- منح الجامعات حريات أكاديمية ادارية وعلمية وبحثية بصورة واسعة وغير منقوصة وإصدار تشريعات تمنع كل أشكال الممارسات السياسية والأيديولوجية في هذه الجامعات، وهذا يوجب إطلاق حرية الرأي والمعتقد للباحثين وصونها بتشريعات قانونية لا يمكن انتهاكها.

4- تقديم الدعم المالي ورفع ميزانيات البحث العلمي إلى حدود ما تخصصه الدول المتقدمة لجامعاتها. وتخصيص ميزانيات جادة وحقيقية لحركة البحث العلمي ولا سيما داخل الجامعات أسوة بتجارب العالم المتقدم بدلاً من الميزانيات العربية الهزيلة والمعوقة. ويتوجب في النهاية دعم البحث العلمي وتعزيز قدرات الباحثين الأكاديميين في الجامعات وتقديم الحوافز المختلفة لتشجيعهم.

 5- استحداث مقررات دراسية وتخصصات دراسية جديدة متخصصة في مجال الثورة الصناعية الرابعة تكون قادرة على مواكبة المرحلة القادمة من مستقبل الثورة الصناعية القادمة وربط استمرار الاستاذ الجامعي التدريسي بإنجازاته البحثيه.

6- ربط الجامعات بشكل جذري بالمصانع وسوق العمل ولا سيما من الناحيه البحثيه.

7- توأمة هذه الجامعات مع جامعات متقدمه عالميا وتبادل الاساتذه مع الجامعات الأجنبية المتقدمة علميا.

8- تنميه مهارات التفكير العليا والتفكير الناقد وحل المشكلات وتنويع طرق التدريس والفعاليات الأكاديمية.

9- إعادة النظر في فلسفة التعليم الجامعي ومناهجه، وإعادة النظر فى اهداف التعليم العام وسياساته واستراتيجياته في مواجهة المستقبل والثورة الصناعية الرابعة وإعادة هيكلة الجامعات واستراتيجياتها لتكون قادرة على مواجهة المستقبل ومواكبة الثورة الصناعية الرابعة .

 10- تحليل سوق العمل الحالي والمستقبلي وتطوير البرامج التعليمية لتكون قادرة على تزويد الطلبة بالمهارات والمعارف والقيم اللازمة لمواكبة المتغيرات والمنافسة في سوق العمل الحالي والمستقبلي ولمواجهة التغيرات الاقتصادية المتسارعة.

في الختام نقول كل أن هذه العناصر تصلح لأن تكون منطلقات للتفكير في بناء استراتيجية فعلية لتطوير التعليم العالي وتثويره والانتقال به إلى مرحلة التأثير في المجتمع وتهيئته لمواجهة تحديات الثورات العلمية في المستقبل.   وبعبارة أخرى يمكن القول ” إن كل النقاط والقضايا التي أثيرت ونوقشت قضايا ترتبط جوهريا بإشكالية التحول والتغيير وهي جميعها ضرورية وملحة وأساسية في بناء أي استراتيجية نهضوية أو إصلاحية في مجال التعليم العالي، ويجب أن تؤخذ جميعها بعين الاعتبار وأن يتم تنظيمها وتحقيق تكاملها لرسم استراتيجيات نهضوية فعالة تمكن الجامعات الخليجية من النهوض بمجتمعاتها وتسنم دورها التاريخي في مواجهة التحديات القادمة.


مراجع المقالة وهوامشها :

[1] – George Anders, You Can Do Anything: The Surprising Power of a “Useless” Liberal ArtsEducation (New York: Little, Brown and Company, 2017).

[2] – ميثاء سالم الشامسي، هل هناك إنجاز علمي يمكن التحدث عنه؟ العربي الصغير، العدد67، 2007.

[3] – ميثاء سالم الشامسي، هل هناك إنجاز علمي يمكن التحدث عنه؟ المرجع السابق .

[4] – عماد المرزوقي، أزمة «علم» في الدول الخليجية، الرأي، 20، أبريل 2014: https://www.alraimedia.com/Home/Details?Id=c78a66ba-3519-47a0-9632-cb0df83b7bba

[5] – محمد البغلي، تقرير اقتصادي، الجريدة، 30-05-2013: http://www.aljarida.com/ext/articles/print/1462261336092844700/

[6] – انظر: ابتسام بنت عبد هللا عمر باسعيد، استقلالية الجامعات الحكومية في المملكة العربية السعودية: دراسة استشرافية رسالة دكتوراه في الإدارة التربوية، (الرياض: جامعة الملك سعود، العام الجامعي 1971-1918).

[7] – هاشم المدني، غرائب الأعراف الأكاديمية في التعليم الجامعي، أخبار الخليج، الثلاثاء 13 مارس 2018: http://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1114056

[8] – ندى أبو حميد،، الحرية الأكاديميـة فـي الجامعـات الـسعودية: دراسـة ميدانية (رسالة ماجستير غير منشورة). (الرياض : جامعة الملك سعود 2017).

[9] – مها الشريف، الاستقلال الذاتي مدخل لتطوير الإدارة الجامعية من وجهـة نظر القيادات الأكاديمية في الجامعات السعودية (رسالة دكتوراه غير منـشورة ). مكة المكرمة : جامعة أم القرى، 2015).

[10] – خالد الدخيل، ضمن ملتقى أسبار الحواري: قضية الأسبوع، الجامعات السعودية بين المطرقة والسندان، أسبار، الأحد، 04 حزيران/يونيو2017:http://multaqaasbar.com/

[11] – عبد الهادي ناصر العجمي، الحريات الأكاديمية ومجتمع التعليم والتفاعل داخل المؤسسات التعليمية: التعليم في الخليج بين الحرية والمحظورات – الدراسات التاريخية أنموذجا، بحوث الدورة الثانية لمنتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية: قضايا التعليم، وتحدياته في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، (الدوحة: المركز العربي لدراسة السياسات، 2015). ص 83.

[12] – المرجع السابق ص 89.

[13] – عبيد سعد الله العبدلي، ضمن ملتقى أسبار الحواري: قضية الأسبوع، الجامعات السعودية بين المطرقة والسندان، أسبار، الأحد, 04 حزيران/يونيو2017 .

[14] – مروان كمال، تطوير الجامعات يبدأ من عدم تسييسها واستقلالية إدارتها وأمنها الجامعي‎، وكالة الوقائع الاخبارية، الأربعاء | 2012-04-2: http://www.alwakaai.com

[15]– محمد جزائري، هل قاد التعليم المجتمع الخليجي أم العكس؟ الشرق الأوسط، الثلاثـاء 22 شعبـان 1426 هـ 27 سبتمبر 2005 العدد 9800.

[16] – ربيعة الكواري، حول الفساد في الجامعات الخليجية، منديات شبكة الأسهم القطرية، 2009-09-15: http://www.qatarshares.com/ .

[17] – ربيعة الكواري، حول الفساد في الجامعات الخليجية المرجع السابق

[18] – تقرير لموقع نون بوست، فساد الجامعات السعودية .. علماء للبيع!، نون بوست، 9 ديسمبر 2014، http://www.noonpost.com/content/4630

[19] – انظر أيضا – ربيعة بن صباح الكواري، رسالة من أستاذ جامعي موجهة إلى جامعة قطر، الأحد – 02:39 07/10/2018: https://www.al-sharq.com/

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. الموافقة قراءة المزيد