“الإنسان مفطور على العنف ولكنه مهيأ لمواجهته في الآن الواحد“
مقدمة:
قد يتساءل المرء، عندما يقع على قول في العنف، ما الجديد الذي ينطوي عليه هذا القول؟ وهل يمكن أن يكون أكثر من مجرد إضافة عابرة إلى ركام القول؟ ومن البداهة أن نعترف بأن هذا التساؤل مشروع وموضوعي، وهذه المشروعية لا تمنع من التأمل في طوايا كل عمل يقدم حول العنف تساؤلا عن الجديد الذي قد يخترق جدار المألوف في أكوام الكتابات وركام البحوث الجارية فيه، وكثيرا ما نحسن الظن أملا في الوقوف على جدة أو أصالة في مضامين المحاولات الفكرية الجديدة.
ومن هذا المنطلق نبدي حرصنا على وقت القارئ وزمنه لنعلن بأن مقاربتنا لموضوع العنف قد لا تكون من الجدة في شيء، ربما، إلا في القدرة على تقديم مقاربة جديدة تلامس البعد الأخلاقي للعنف لتضعه في دوائر العقلنة الفلسفية، ووفقا لهذا التصور فإن مقالتنا هذه لا تريد أن تكون مجرد إضافة متهالكة في أكداس مقولات العنف وتراكماته، إنها تريد أن تقدم تصورا واضح المعالم للجوانب الأخلاقية والإنسانية في مفهوم العنف، كما تريد أن ترسم منهجا متواضعا لعقلنته في تساوق أخلاقي يحتكم إلى رؤية فلسفية وإن لم يكن في هذا كله جديدا فإننا لا نعدم أن ينطوي منهجنا في مقاربة هذه الظاهرة على بعض الجدة والأصالة.
في مفهوم العنف: معادلة القوة.
قد يبدو مفهوم العنف La Violence للوهلة الأولى من أكثر المفاهيم وضوحا وتميزا، ولكن ما أن يتم التأمل فيه والخوض في دلالاته ومعانيه، حتى تقفز أمام العقل صعوبة تعريفه ومشقة تحديد مساره. ومن أجل الكشف عن بعض معانيه ودلالاته يمكننا أن نضعه بداية في ضوء التعريفات الكلاسيكية.
يعرف العنف لغويا بأنه ” ممارسة للقوة على شيء ما” (1). ويحدد قاموس ويبستر سبعة معان لمفهوم العنف Violence أهمها أن العنف هو ” القوة الجسدية أو النفسية التي تستخدم للإيذاء أو للإضرار”(2).
فالعنف هو استخدام القوة المادية لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والممتلكات. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى تعريف (تشارلز ريفيرا) Charles Rivera و(كينيث سويتزر) Kinneth Switzer حول العنف وهو: العنف هو الاستخدام غير العادل للقوة من قبل الأفراد لإلحاق الأذى بالآخرين والضرر بممتلكاتهم(3). فالعنف هو كافة الأعمال التي تتمثل في استخدام القوة أو القسر أو الإكراه بوجه عام ومثالها أعمال الهدم والإتلاف و التدمير والتخريب وكذلك أعمال القتل والفتك والتعذيب وما شابه(4). ويعرف العنف أيضا بأنه ” و الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين(5). ويـأتي في هذا السياق تعريف بيير فيو: الذي نظر إلى العنف بأنه ضغط جسدي أو معنوي ذو طابع فردي أو جماعي ينزله الإنسان بالإنسان(6).
وفي تعريفنا لمفهوم العنف كبداية للخوض في معانيه الإنسانية والأخلاقية يمكننا أن ننطلق من أبسط تعريف يقبله العقل، وأبسط تعريف للعنف يتمثل في القول: بأن العنف هو ممارسة للقوة La force (أية قوة فيزيائية أو نفسية أو معنوية)، والقوة تحتاج إلى موضوع تمارس ضده، وهي تمارس تأثيرها لغاية ما (وهذا يشمل القوى الطبيعية كل ظاهرة طبيعية تمارس فعلها وظيفيا)، وهذا يعني أن القوة تعني ممارسة التأثير في الأشياء إذ ليست هناك قوة لا تتعين في قدرتها على التأثير في أشياء خارجية.
ولو تناولنا أبعاد هذا التحليل للمفهوم في الحقل السوسيولوجي لأمكننا القول بأن العنف – بالمعنى السوسيولوجي- ممارسة للقوة الفاعلة والمؤثرة ضد الآخر بهدف السيطرة عليه أو إلحاق الأذى به، والقوة وجود كامن مفترض، وبالتالي فإن الانتقال بالقوة من حالة الوجود الكامن إلى حلة الوجود بالفعل (أي ممارسة القوة ) يؤدي إلى حضور العنف المتعين في حالات واقعية قابلة للملاحظة والمعاينة. فالدولة وفقا لهذا التصور تمتلك القوة، والقوة هنا تتمثل في أدوات الضبط الاجتماعي والسياسي، مثل الجيش وأجهزة الأمن، والعنف لا يكون إلا باستخدام القوة( الجيش أو أجهزة الأمن )، واستخدام القوة يحتاج إلى موضوع، وموضوعه قد يكون على سبيل المثال قمع المظاهرات أو التجمعات وإخضاع المتمردين لإرادة الدولة. ولذلك فالعنف معادلة إنسانية تقوم على نسق من المفاهيم المترابطة وهي: القوة، إرادة القوة، موضوع العنف، غاية العنف، درجة استخدام القوة. إذن العنف هو علاقة دينامية ترتبط بمعادلة العلاقة بين القوة وموضوعها وفاعلها ومريدها وهدفها. فعندما تمارس الدولة عنفا لقمع المتظاهرين يمكن أن نعيّن العنف في العلاقة بين صاحب القرار بممارسة القوة (إرادة القوة)، موضوع القوة (المتظاهرون)، غاية العنف ويتمثل في الأمن والسيطرة، أداة العنف وتتمثل في القوة الجيش والأمن، درجة استخدام القوة (العصي، قنابل مسيلة للدموع، رشاشات الماء ). وبالطبع يمكن أن نميز بين العنف المشروع الذي يكون دفاعا عن النفس أو حماية المواطن أو حماية الوطن، وقد يكون العنف غير مشرع مثل الاعتداء والاحتلال والإذلال والعبودية والقهر. ومما لاشك فيه أن مشروعية العنف وطريقة توظيفه مسألة نسبية تؤخذ في سياقها الاجتماعي وفي دلالاتها الفلسفية والإنسانية.
ومن الواضح بمكان أن توظيف العنف بالنسبة للأشخاص والأفراد لا يختلف عن المثال الذي أوردناه حول عنف الدولة، فالشخص الذي يمارس القوة في تحقيق أغراضه، يمارس العنف وفقا لمعادلة وجود القوة وحضور موضوعها وغايتها ودرجة استخدامها. واليوم تنوعت أشكال العنف ومفاهيمه حيث نجد أشكالا متعددة مثل العنف اللفظي عنف اللغة والعنف السيكولوجي والعنف الفيزيائي والعنف الرمزي.
وهنا يجب علينا أن نذكر أنفسنا بأن غرض مقالتنا هذه ليس في التحدث عن مدى حضور العنف في عالمنا المعاصر سياسيا أو تربويا ، كما أننا لسنا بصدد تحليل مخاطر هذا العنف ودرجته، فهناك أعمال هائلة منجزة في هذا الميدان قد تتجاوز حدود القدرة على الإضافة والتجديد في هذا المجال. فالهدف من مقالتنا هذه هي التأمل في البعد الأخلاقي للعنف بمعنى كيف يمكن لنا أن بحث عن تصور عقلاني للعنف ونعني بذلك البحث عن مقدمات فلسفية لفهم العنف وإدراك دلالته من وجهة نظر أخلاقية وإنسانية.
وهنا يتضح لنا أن كل محاولة لتعريف العنف وتوصيفه يجب أن تنطلق من العلاقة بين هذه المفاهيم التي وظفناها في تفسير العنف (القوة، أداة القوة، درجة الشدة أو العنف، غاية العنف، موضوع العنف). وهنا يمكن أن نتحدث وفقا للتوصيف الخاص بكل عنصر من العناصر عن عنف مشروع (دفاع عن النفس) أو إرهاب(درجة استخدام القوة) أو عدوان (احتلال هيمنة سيطرة ) , وهذا يعني أن العنف مفهوم مركب على صورة معادلة مرنة قابلة للتوصيف وفقا للحالات التي تتجلى بها وللأيديولوجيا التي ترسم حدودها.
ووفقا للمعادلة التي قدمناها فإنه يمكننا القول بأن كل نضال هو برهان على القوة. وفي السياق الاجتماعي الاقتصادي أو السياسي يمكن القول أيضا بأن كل علاقة مع الآخر ترتسم في صورة علاقة قوة. وبالتالي فإن الظلم ينجم عن خلل في ميزان القوى، حيث يجد الضعيف نفسه مكرها على طاعة القوي، وحيث يعمل القوي على إلغاء الضعيف. وهنا يبرز النضال أو الصراع من أجل بناء علاقات جديدة من القوة، أي من أجل إعادة بناء التوازن الذي يضمن احترام حقوق الجميع. وهذا يعني بالضرورة أن العمل من أجل العدالة هو عمل من أجل تحقيق التوازن في مدارات القوة، وهذا لا يمكن أن يكون إلا عبر القوة نفسها التي تعتمد ذاتها في إحداث الخلل وإسقاط التوازن. وليس ممكنا أبدا أن نبخس القوة ونرفضها إلا في الحالة التي ينظر فيها إلى هذه القوة بوصفها مشروعة كليا. ومن الضرورة بمكان في هذا السياق رفض المزاعم الواقعية التي تبرر مشروعية القوة باعتبارها قائمة في أصل الفعل الإنساني نفسه، كما يجب رفض النزعة الروحية التي ترى بأن القوة ملازمة للفعل. فالقوة لا وجود لها إلا في الممارسة وهناك إمكانية كبيرة لرفض القوة ورفض استخدامها عبر برامج فعالة قوامها ترفض اللجوء إلى القوة وتمتلك القدرة على إعادة التوازن في علاقات القوة من أجل تحقيق العدالة واستحضار القانون وإعادة الاعتبار إلى الحقوق الإنسانية.
فممارسة القوة تؤدي في النهاية على إنهاء الصراع بحثا عن معادلة جديدة للعدالة بين الأطراف المتعادية. وهنا يأخذ العنف صورة فعالية مضادة أو صورة ردة فعل على فقدان التوازن العادل القائم على العدالة في منظور من يمارس هذه القوة ذاتها.
موت الآخر:
إذا كان لدينا شخصان يتنافسان على امتلاك شيء واحد. فالشيء موضوع التنافس يكون مرغوبا بالنسبة لكل من واحد من المتنافسين. وعلى الأثر يصبح المتنافسان خصمين، وهما في الوقت نفسه يحولان اهتمامهما من الشيء المتنافس عليه إلى التنافس نفسه. وكل طرف منهما يفضل تدمير موضوع الرغبة (مصدر التنافس) على أن يصبح ملكا للآخر، وهذه العداوة تأخذ صورة منافسة خالصة. وابتداء من هذه اللحظة فإن العلاقات التنافسية بين الطرفين تأخذ طابع القوة وترتدي لبوسها. فالعنف كما يرى جيرار هو فعل يعتمد كليا على مبدأ المحاكاة والتقليد ويأخذ طابعا التتابع الدوري، حيث يحاكي كل طرف من الطرفين عنف ويزيد عليه ويرجعه إليه بقدر أكبر.
فالعنف المدمر يظهر بقوة عندما يرفض شخص ما أن يضع حدودا لرغبته التي تقع في مجال رغبة الآخر. وتكون هذه الصيغة من العنف عندما يعلن شخص ما بأنه يحق له امتلاك كل الأشياء، وأن الآخرين يشكلون عقبة في طريقه، ولذلك يجب عليه أن يتخذ السلاح وسيلة لإزالة هذه العقبات من طريقه. فالعنف وفقا لهذا التصور يوجد في أصل الرغبة النفسية أو البيولوجية التي تجد عوائق تمنعها من التحقق مبنية على رغبات الآخرين. ووفقا لهذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن صراع الرغبات كمصدر حيوي للعنف.
هناك من يتحدث اليوم عن العنف الجيد والعنف السيئ، وهذا التصنيف قد يؤصل لعملية تبرير العنف حيث يلجأ كل ممارس للعنف إلى إضفاء طابع الأصالة والمشروعية على العنف الذي يمارسه. وانطلاقا من أهمية رفض هذه المشروعية للفصل بين أنواع العنف، يمكن القول: بأن كل عنف يشكل في النهاية عملية من عمليات التدمير والموت. فالعنف مهما يكن يتضمن رغبة في إلغاء الآخر وإماتته. وفي هذا الخصوص يقول المفكر الفرنسي بول ريكو Paul Ricœur بأن العنف يتجه في مساره بوضوح أو بغموض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى موت الآخر أو إلى شيء قد يفوق حد الموت ذاته من حيث الضرر. فكل عنف وفقا لتصور ريكو هو اعتداء على إنسانية الآخر، وبالتالي فإن أي عنف هو عملية إضرار وأذى موجهة ضد الآخر، وهذا يعني أيضا رفض الاعتراف بوجود الآخر وإنسانيته أيضا.
فالرغبة في إقصاء الخصم وإبعاده، واختزاله، ووضعه في دائرة الصمت، ومن ثم إلغائه، تتحول إلى إرادة طاغية تتجاوز حدود الرغبة في المصالحة معه. وهنا تتعدد أشكال العنف وصيغه التي تبدأ بالاهانة، مرورا بالاحتقار والإذلال، وصولا إلى التعذيب، وانتهاء بالموت والإفناء. ووفقا لهذه الوضعية يمكن القول بأن النيل من كرامة الإنسان يشكل طعنا في وجوده ونيلا من حياته. وهنا أيضا فإن إصمات الآخر هو صيغة من صيغ العنف الرهيب، وهذا يعني إن حرمان الإنسان من حرية الكلام يعني ذلك حرمانه من حق الحياة. وهذا ما ينص عليه قانون كازاخ في إقليم السّهوب حيث يقرر “بأنه يجوز لك أن تقطع رأس الإنسان، ولكن لا يجوز لك أن تقطع لسانه”.
فالظلم الذي يحيق بالإنسان ضمن شروط اغترابية تتمثل في الإقصاء والقهر يشكل وضعية عنف مجسد ومجسم. فالعنف لا يمثل كيانا ذاتيا قائما بذاته بل يوجد في وسط اجتماعي محدد إنه يتخذ هيئته وصورته بين الناس والبشر وخارجهم أيضا، ومع ذلك فإن الإنسان يبقى في النهاية المسؤول عن كل صيغ العنف وتجلياته المختلفة.
تشيؤ الإنسان:
غالبا ما يتم فصل العنف عن الذي يمارسه في أكثر تعريفات العنف شيوعا وتواترا. وهنا فإننا نخطئ كثيرا في فهم طبيعة العنف ودلالته الحقيقية عندما لا نأخذ بعين الاعتبار الوسائل والغايات في تعريفنا إياه. ومن أجل تعريف العنف وفهم دلالته يجب علينا أن ننظر إليه من زاوية هؤلاء الذين يقعون ضحيته. وهنا يمكن الإشارة إلى تعريف سيمون واي Simone Weil ومفاده بأن العنف هو الفعل الذي يقوم به شخص ما لإخضاع شيء ما، وهذا يقطع بأن ممارسة العنف ضد الآخر يجعل منه مجرد شيء بالمعنى الدقيق للكلمة ويعامله كجسد ميت. ولكن العنف الذي يقتل مباشرة يشكل صيغة بربرية اختزالية. وبالتالي فإن هذا العنف القاتل يأخذ صيغا متنوعة فيما يتعلق بإجراءاته وأدواته ونتائجه. ومع ذلك يجب القول بأن العنف الذي لا يقتل مباشرة، لا يعني بأن غير قاتل في نهاية الأمر، لأن القتل احتمال قائم في كل أشكال العنف، وهذا يعني أن العنف الذي لا يقتل مباشرة قد يقتل بالضرورة، وقد يكون قاتلا على مبدأ الاحتمال. ومهما يكن الأمر فإن العنف يحول الإنسان إلى شيء إلى حجر إلى حالة تشيؤ بالمعنى الفلسفي.
وهنا يمكننا أن نستوحي تعريفا للعنف من المسلمة الأخلاقية الثانية عند كانط Kant التي أوردها في كتابه أصول ميتافيزيقيا الأخلاق: ” تصرف بطريقة تعامل فيها الإنسانية (جميع الناس) في شخصها كما تعامل نفسك على أنها غاية وليس وسيلة أبدا”(7). ووفقا لهذه القاعدة الأخلاقية الكانطية فإن الإنسان على عكس الأشياء لا يوجد إلا بوصفه غاية عليا في ذاته. فالإنسان كما يؤكد كانط كائن عاقل، يوجد وجودا غائيا في ذاته، وليس كأداة أو كوسيلة. وبالتالي فإن إرادته يجب أن تستوحي الخير في كل الأفعال والممارسات، كما يجب أن تتجه إلى تحقيق خير وكرامة الآخرين الأخوة في الإنسانية، وهو في ذلك كله يجب أن ينظر إلى نفسه والآخرين كغاية كلية إنسانية. وهنا يمكن القول بأن من يعامل الآخرين بوصفهم أدوات فإنه يغتصب إنسانيتهم، وبمعنى أكثر دقة إنه يمارس العنف ضدهم. ومن هذا المنطلق يمكن تعريف العنف عبر رسالة كانط: أن تكون عنيفا هذا يعني أنك تجعل من الآخرين أدوات ووسائط دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن الآخرين يمتلكون كينونة إنسانية غائية بذاته ومن أجل ذاتها.
يقال بأن العنف هو إساءة استخدام القوة والإفراط في توظيفها، ولكن يجب علينا أن نقول بأن العنف يفوق ذلك ويتجاوزه: فالعنف بذاته أمر فظيع، واستخدامه أمر أكثر فظاعة منه. فالعنف هو حالة اغتصاب لجسد الآخر وعقله ونفسه وكينونته الإنسانية. كل عنف هو تعسف وفظاظة وتدمير وقهر وتدمير. فالعنف ينال من الإنسان ويستهدف كيانه الإنساني ويخترقه بالألم والمعاناة إنه يجرح ويدمي ويقتل شخص الذي يتعرض له.
ومن المفارقة بمكان أن الإنسان الذي يقع ضحية العنف يصبح هو نفسه قادرا على ممارسة العنف ضد الآخرين. والإنسان عندما يفكر في نفسه ويتأمل في ذاته غالبا ما يكتشف صورة العنف في أعماقه. والعنف لا يقتل الخصم فحسب بل يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير إنسانية الذي يمارسه في جوهر الأمر. أن يضرب المرء أو أن يضرب، أن يعتدي أو يعتدى عليه، فهذا يعني ارتكاب الخطيئة والخروج عن الصراط المستقيم. وفي أي حال من الأحوال فإن ممارسة العنف أو الخضوع له عملية تحول الإنسان إلى حالة التشيؤ وتدفعه إلى دائرة الاغتراب.
اللاعنف La non-violence:
يعود الفضل إلى غاندي الذي أبدع مفهوم اللاعنف وقدمه للغربيين وهو ترجمة إنكليزية لكلمة Ahimsa المستخدمة في اللغة السنسكريتية (لغة البراهمة القديمة في الهند). وهذه الكلمة موظفة في اللغة السنسكريتية ومستخدمة في النصوص البوذية والهندوسية واليانية Jaïniste. و تجدر الإشارة في هذا السياق أن الديانة اليانية – إحدى ديانات الهند القديمة – كانت تعتمد منهجا في تطهير النفس الإنسانية باللاعنف. وهذه الكلمة كما هو مبين مركبة من كلمتين هما العنف ونفيه في السنسكريتية فكلمة Himsa تعني الرغبة في التدمير واستخدام العنف ضد كائن حي، وبالتالي فإن إضافة البادئة a تعطي الكلمة معنى النفي فتتحول الكلمة إلى صيغة a-himsa وهي هنا تعني العرفان والترويض والسيطرة على الرغبة والميول والعنف الذي يوجد في داخل الإنسان وهي الطاقة التي تدفع الإنسان إلى إقصاء الآخر وإيذائه وإبعاده ومن ثم إماتته.
ولكننا لو أخذنا الدلالة الاشتقاقية الصرفة لكلمة A-himsa لجازت ترجمتها إلى كلمة البراءة (In-nocence) في اللغة الفرنسية وكلمة (In-nocence) الفرنسية مشتقة من ثنائية الكلمة اللاتينية In-nocens، والفعل اللاتيني nocere يعني القيام بعمل شرير والتدمير. وهذا الفعل نفسه يعود إلى مصدر nex أو necis ويعني الموت العنيف أو القتل.
نرجسية العنف:
لا ينظر غاندي إلى اللاعنف بوصفه منهجا للفعل، بل طريقة في الحياة وأسلوبا في الوجود ونظرة خيرة إلى الكون، فاللاعنف كما يتجلى عند غاندي هو موقف الخير المطلق إزاء الإنسان وإزاء الآخر الإنساني مهما تكن صيغة هذا الآخر أكان مجهولا معلوما صديقا بعيدا قريبا حتى عدوا.
وعندما يحاول غاندي تعريف اللاعنف فإنه يعلن هذه القيم السلبية لكل الأفعال الضارة والمؤذية التي يمكن للإنسان أن يمارسها ضد الإنسان. وهكذا فإن اللاعنف يعني تغييبا مطلقا لكل أشكال الشر والظلم والعدوان والقهر. إن اللاعنف هو الخير المطلق إزاء كل الأحياء(8) . والتجربة التي تتوج مفهوم اللاعنف هي موقف سلبي حيث يطالب الإنسان بالامتناع عن ممارسة الشر بكل معانيه ودلالاته إزاء الآخر. وهو بالتالي عندما يضع هذه الرؤية فإنه يفترض بالضرورة وجود طبيعة في الإنسان تشده إلى ارتكاب العنف ضد الآخر. والسؤال هنا لماذا يكون الإنسان عنيفا تجاه الآخر؟ والسؤال الأكثر خطورة هنا يتعلق بفهم طبيعة الإنسان التي تقود إلى العنف وأعمال الشر؟ لماذا يتأصل العنف في الإنسان؟ ولماذا يرغب الواحد في موت الآخر؟ ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يمكن الاستئناس برأي كانط الذي يرد هذا العنف وهذا الشر إلى الأنانية الإنسانية التي تتمثل في الحب المفرط للذات. فالانشغال بالذات لا يمكن أن يترك أي مجال للاهتمام بالآخر. فعندما يوجد شخصان في مجال واحد سيضع كل منهما إشباع حاجاته ورغباته وتحقيق اهتماماته في سلم الأولوية، وهذا سيؤدي إلى المواجهة بين طرفين متعارضين وهذا بدوره يؤدي إلى توليد العنف والصراع. وهذا يعني أن العنف يأتي نتاجا للصدام بين أنويتين أو نرجسيتين مختلفتين.
فكل إنسان يشبه نارسيوس Narcisse فتى الأسطورة الإغريقية الذي عرف عنه بأنه كان ينظر في صورته الجميلة على صفحات الماء فوقع في عشق نفسه وتيّم بها، فلم يستطع أن يحب غير نفسه ولم يمتلك القدرة أبدا على الاهتمام بالآخرين إلا من أجل احتقارهم. ووفقا لهذه الطبيعة الأنانية فإن الإنسان يتصف بالغيرة من الآخرين، وهو بالتالي لا يتوقف عند حدود في تمجيده لذاته وتقديره لأناه بالمقارنة مع الآخرين. وتحت تأثر هذه النرجسية فإن الإنسان يقارن نفسه مع الآخرين مع الإصرار على أن يكون الأفضل والأعلى والأكثر أهمية.
يعتقد كانط بأن الإنسان يمتلك في ذاته أيضا على قانون آخر مباين لقانون النرجسية هو القانون الأخلاقي. فالإنسان وبوصفه كائنا عاقلا يعيش مزودا بالإرادة التي تخضعه لمتطلبات القانون الأخلاقي. وهذا القانون يعمل على استبعاد النزعات الأنانية ومحاصرتها. والإرادة لا يجب أن تخضع أبدا إلا للقانون الأخلاقي. وعلى خلاف ذلك فإن الطبع الأولي والبدائي في الإنسان يخضع كليا لقانون حب الذات متجسدا في النرجسية والأنانية. فالقانون الأخلاقي لا يمكن أن يسمو إلا باحتقار النزعات البدائية والأنانية في الإنسان. ولذلك فإن القانون الأخلاقي يتجلى في صورة الامتناع(9) ، وتلك هي السمة التي تتخذها الأخلاق التي تجبر الإنسان على التوازن والتخلي عن النزعات الذاتية الكامنة فيه. ومن هنا تأخذ الإرادة صورة الخير في الإنسان وصورة التواصل الإنساني بين الإنسان والإنسان بعيدا عن طل صيغ الأنانيات والنرجسيات المذلة.
يأخذ اللاعنف صورة مبدأ أخلاقي عند غاندي وهو مبدأ اعتقادي حيث يقول ” إنني أؤمن بمبدأ اللاعنف”. وهذا المبدأ كما يراه غاندي هو المنهج الصحيح في البحث عن الحقيقة وهو في هذا الصدد يعلن دون تراجع بأن اللاعنف هو الطريق الذي يهتدي به الإنسان في بحثه عن الحقيقة. ويقول في هذا الصدد أن اللاعنف والحقيقية مرتبطان بعمق بحيث لا يمكن الفصل بينهما أبدا. إنهما أشبه بوجهين لحقيقة واحدة أو بوجهين لميدالية لا اختلاف بين وجهيها). ووفقا لهذا التصور الغاندوي يمكن القول بأن اللاعنف لا يحتمل إسقاطات أيديولوجية بل هو تصور فلسفي روحي أصيل في الحكمة الإنسانية.
وفي جانب آخر من جوانب المعادلة الغاندية لمفهوم العنف، يذهب غاندي إلى القول بأن اللاعنف يمثل الحقيقة الإنسانية نفسها، وهو في هذا السياق يرى بأن أحدا لا يستطيع أن يزعم بأنه يمتلك هذه الحقيقة. ولطالما يعيش الإنسان مجسدا فإن اللاعنف الكامل ليس إلا افتراض نظري. ومع ذلك يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه من أجل التواصل مع هذه الحقيقة الإنسانية دائما، ولهذا فإن غاندي كان دائما يأخذ صورة الحكيم الذي يبحث دائما عن الحقيقة لا غيرها.
عقلنة العنف
ما بين التعريفات المتعددة للإنسان يعتمد إيريك وايل التعريف الأكثر شيوعا وهو أن ” الإنسان حيوان متكلم عاقل”(10) . ومن المؤكد أن الإنسان لا يسلك عفويا وفقا لمتطلبات العقل بل يحاول أن يفعل ذلك من أجل أن يكون إنسانا. وهذا الجهد الذي يتميز به الإنسان في مجال التفكير والكلام والحياة العاقلة سمات نجدها في التفكير الفلسفي ذاته. وعندما يكون الإنسان فيلسوفا فإنه يقرر أن ينتصر للعقل، وهو في انتصاره هذا يتوجب عليه أن يكتشف ويدرك ما يمنعه من أن يكون كائنا حكيما عاقلا. والفيلسوف يمتلكه الخوف ليس من المخاطر الخارجية، وبالتأكيد ليس من الموت نفسه، بل يخاف ذاته وما ملكت نفسه من عناصر غير عاقلة، إنه يخاف هذا العنف الكامن في نفسه. وذلك لأن هذا العنف الذي يكتشفه الفيلسوف في نفسه يقود الفيلسوف إلى مواقف غير عقلانية، ويشكل عقبة أمام تحقيق الفيلسوف لكينونته الإنسانية. ومن هنا فإن الفيلسوف يخشى العنف ويرهبه أي العنف الداخلي الكامن في الأعماق الإنسانية للفيلسوف بوصفه إنسانا، وذلك لأن هذا العنف يمنع عليه حكمته ويقطع عليه الطريق نحو تحقيق ذاته الإنسانية. والفيلسوف المبتدئ يشعر في اللحظة التي يريد فيها أن يصبح عاقلا أنه معبأ بالحاجات والرغبات والاهتمامات والانفعالات. ولأنه ينوء بأحمال هذه الميول الأولية يشعر بأنه ميال إلى العنف ضد أشباهه من البشر.
ولكن الإنسان لا يكتشف العنف في ذاته إلا لأنه كائن عاقل. فالعنف لا يفهم إلا من خلال التفكير أي بعد أن يتأمل الإنسان نفسه ليدرك عنفه الخاص. وهو في سياق هذا التأمل والتفكير لن يكتشف العنف في نفسه بل في داخل المجتمع الذي ينتسب إليه وفي تاريخ الحياة الإنسانية، وهذا التحصيل العقلي للعنف وإدراكه لا يكون إلا بفضل اللاعنف. فالعقل الإنساني هو سبيل الإنسان ولكنه ليس إلا فرصة وإمكانية تجعل الإنسان قادرا على امتلاك ذاته والسيطرة على قدر العنف في داخله.
فالإنسان قادر على توجيه سلوكه وفقا للعنف أو للعقل ويجب عليه الاختيار بينهما. ومن الطبيعي هنا استحضار المطلب الفلسفي الذي يقضي بخيار العقل ضد العنف. فالفلسفة تريد للعنف أن يختفي من الوجود مع أنها تعترف بحضور الحاجة والرغبة، ومن الضرورة بمكان أن يكون الإنسان حيوانا عاقلا، والمهم جدا في هذا كله أن يعمل على إقصاء العنف واستبعاده وتقليص حدود وجوده في النفس الإنسانية. وفي هذا المستوى يمكن للفيلسوف أن يعلن أهمية الحضور الأخلاقي في مواجهة الإنسان لمختلف ظروف الحياة والوجود. وإنه لمن الضرورة بمكان أن تقليص العنف إلى أقصى حدّ ممكن في دائرة الحياة الإنسانية وأنه ليس هناك بالمقابل أية مشروعية للعنف في أي ميدان من ميادين الحياة الإنسانية.
فالعقل الإنساني بنيوي في تكوين الإنسان، في كل إنسان، وهنا يجد الإنسان نفسه في مقتضى الحياة الأخلاقية وفي مدارها، وهذا يتطلب بالضرورة من الإنسان – كل إنسان – احترام العقل في ذاته وفي ذوات الآخرين. وهذا يعني في النهاية أنه يتوجب على الإنسان أن يتوقف كليا عن إنتاج العنف وممارسته ضد الإنسانية وفقا لمقتضى العقل. وأنه يجب على الإنسان أن يدرك أنه ليس من حقه أبدا وليس مشروعا أبدا ممارسة العنف ضد الذات أو الآخر.
فالإنسان الذي قدم خيار العقل لأنه يريد تحقيق التوازن الخلاق في حياته الأخلاقية يخضع سلوكه وقراراته لمبدأ العالمية. إذ يتوجب على كل إنسان أن يسلك بطريقة يكون فيها سلوكه نموذجا إنسانيا(11). ومن أجل أن يتقدم الإنسان إلى هذا المستوى من العالمية يتوجب عليه خيار اللاعنف لأن اللاعنف ذاته يمثل العالمية نفسها.
ومع أهمية البعد الأخلاقي في الممارسة الإنسانية، فإن العنف يفرض نفسه كاحتمال دائم بالنسبة للإنسان الذي قدّم خيار العقل والعقلانية، ولذلك فإن الفيلسوف لا يتوقف أبدا في المجاهدة ضد العنف وضد الخيارات اللاعقلانية وفي تقديم خيار العقل ضد العنف، ولاسيما في عالم يقدم فيه الآخرون خيار العنف على العقل. وهنا وفي هذا العالم يتوجب على الفيلسوف أن يعلم الآخرين ويوجههم نحو الخيار الإنساني المضاد للعنف بقد ما يمتلك من قدرة وذلك لحماية العالم من الوقوع كلية في دائرة العنف المدمر. ومن هنا فإن منهج اللاعنف يشكل نقطة الانطلاق كغاية نهائية للفلسفة.
ولم يكن إيريك وايل أقل صرامة من غاندي حين يؤكد بأن مآل العنف إبعاد الإنسان عن الحقيقية. وبالتالي فإن العنف يقود إلى الرعب، والرعب هو عقيدة أخرى تنطلق لتبرير العنف ذاته، وهذا يعني أن العنف حق من حقوق الإنسان، ولأن العنف يحقق نجاحا واضحا فإنه يصبح مطلوبا ومفروضا. والتاريخ هنا يشهد – وهذا ما تؤكده التجربة في كل يوم – بأن الحقيقية هي إشعاع للعنف وترجمة له وذلك عندما لا تكون هذه الحقيقة مؤسسة على مبدأ اللاعنف ومتطلباته. وإذا لم تكن الحقيقة قائمة على رفض العنف فإن هذا العنف ذاته يصبح فعلا مشروعا للدفاع عن الحقيقة نفسها. وهنا ومن جديد فإن الاعتراف بضرورة اللاعنف يسمح لنا بالرفض المطلق مرة واحدة وإلى الأبد كل الأوهام الإيديولوجية التي تعطي العنف مشروعية الدفاع عن الحقيقة.
يقال دائما بأن اللاعنف خيار الضعفاء، لأن مفهوم اللاعنف مشبع بالطابع السلبي، وأن هذا المفهوم بالتالي ينطوي على عناصر الغموض. ومع ذلك يمكن القول وعلى خلاف ذلك إن الغموض يلف علاقة الإنسان مع العنف ويتغلغل فيها. ومما لا شك فيه أن مفهوم اللاعنف يمتلك في ذاته وعلى نحو فلسفي مسألة العنف ذاته. وبالتالي فإن رفض اللاعنف يعني تملصا من تناول مسألة العنف ذاتها. وهي مسألة جوهرية تلامس معنى وجودنا. ومع ذلك فإن هذه المسألة مزعجة جدا لأنه تضعنا في مواجهة حقيقية مع حقيقة العنف. وفي دائرة هذه المساءلة فإن طرح سؤال اللاعنف يضعنا نحن البشر في دائرة هذه المساءلة، ووفقا لهذه المعادلة فإن رفضنا لكلمة اللاعنف يعني رفضنا لمتطلبات تجربتنا وحضورنا الإنساني ذاته.
يأخذ مفهوم اللاعنف صورته الإنسانية العاقلة وذلك لأنه وحده دون غيره من المفاهيم الذي يجرد مفهوم العنف من مشروعيته. وهو المفهوم الأكثر عدلا ودقة ونشاطا من أجل رفض كل العمليات والصيغ التي تجعل من العنف حقا مشروع للإنسان ضد الإنسان. وبالتالي فإن خيار اللاعنف يعني العمل على تحقيق التوازن ما بين وجودنا الإنساني مع متطلبات الوجود الكوني في صورته العقلانية الذي يتجلى في صيغة نفي مطلق قوامه عبارة واحدة: لا تقتل. وهنا يبدو لنا أن هذا المنع ضد القتل جوهري لأن رغبة القتل موجودة في دواخلنا جميعا. فالقتل ممنوع لأنه إمكانية قائمة دائما، ولأن هذه الإمكانية مضادة للحياة الإنسانية. وهنا يبدو المنع ضروريا وذلك لأن الرغبة قائمة ومسيطرة وكلما كانت هذه الرغبة حاضرة كلما اقتضى الأمر حضور المنع والتحريم للعنف والقتل.
الإنسان كائن عقلاني عاقل، وهذا يعني أنه يحتاج إلى التفكير في مواقفه وسلوكه وأفعاله من أجل تبريرها في مواجهة نفسه والآخرين أيضا. ولأن الإنسان كائن مفطور على العنف فإنه يعمل على أن يبرر هذا العنف لنفسه كحق من حقوق الإنسان نفسه. فالحيوانات ليست عنيفة إلا من وجهة نظر الإنسان، وذلك لأنها غير قادرة على التفكير في العنف الذي فطرت عليه. ومما لا شك فيه أنه في عالم الحيوانات فإن السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة وأن الذئب يفترس الخرفان. ولكن الحيوانات غير مسؤولة عن هذا العنف. ولكن الإنسان بوصفه كائنا عاقلا يقع في دائرة المسؤولية عن أفعاله وعن العنف الذي يمارسه. ولأن العقل هو خاصة إنسانية ولذلك فإن العنف هو بالضرورة خاصة إنسانية. وقد يمكن للإنسان أن يضع عقله دون أدنى شك في خدمة العنف. ولذلك فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبرهن وحشيته إزاء أشباهه. وغالبا عندما تجري المقارنة بين وحشية الإنسان ووحشية الضواري تصب اللعنة على الضواري وذلك لأن الضواري لم تصل إلى ما لا يتميز به الإنسان من التهذيب والأناقة، ولكن ألا يجب علينا أن نقول هنا بأن العنف لا يصدر عن الحيوان لأنه بالضرورة خاصة إنسانية وهنا يكمن البؤس الإنساني.
فالإنسان مفطور على العنف ولكنه في الوقت نفسه مهيأ لمواجهة العنف ذاته. والسؤال يكمن في معرفة الوسيلة التي يعتمدها الإنسان في تثقيف نفسه والآخرين في مواجهة العنف ولاسيما لدى الأطفال. إن الخيار الذي يفرض نفسه هنا هو خيار فلسفي تربوي بالضرورة. والسؤال الجديد الذي يطرح نفسه هنا علاقة مابين التربية والفلسفة؟
إنه لمن المؤكد بأن المجتمعات الإنسانية المعاصرة تعلن عن رفضها للعنف وتدينه ولكنها وفي الوقت نفسه تمارسه وتمعن في ممارسته. وهي في الوقت نفسه تعززه في نفوس الأفراد لأنه في كثير من الأحيان وفي مواجهة الصراعات السياسية لا تجد هذه المجتمعات خيارا غير العنف في إيجاد الحلول للقضايا السياسية والاجتماعية. ومما لاشك فيه أن هذه الثقافة أي ثقافة العنف تقدم للفرد تصورات أيديولوجية من أجل أن تعطيه تبريرا لممارسة العنف من أجل قضايا عادلة. وغالبا ما تقدم هذه الثقافات العنيفة المثل الذي يقول بأن الغاية تبرر الوسيلة “La fin justifie les moyens” وهذا يعني تبريرا لاستخدام العنف في الدفاع عن قضايا عادلة. ولكن المشكلة دائما هي أن القضية العادلة هي قضية مشبعة بالذاتية والأنوية: قضيتي أنا، حقوقي، سعادتي، عائلتي، معتقدي أمتي، وطني، ولهذا نجد بأن مشروعية الدفاع تسمح لكل منا أن يبرر عنفه الخاص.
مراجع المقالة وهوامشها:
(1) – روبرت ف.لتكة العنف والقدرة، ترجمة شريف بهلول، ضمن: المجلة الدولية لعلوم الاجتماعية، ظاهرة العنف: منظورات من خلال الفلسفة وعلم الاجتماع، عدد 132،(صص5-15)ص5.
(2) توماس بلات، مفهوم العنف: وصفه وتفنيده، ضمن: المجلة الدولية لعلوم الاجتماعية، ظاهرة العنف: منظورات من خلال الفلسفة وعلم الاجتماع، عدد 132،(صص17-25)ص17.
(3)- حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ص42.
(4)-بكر القباني، ثورة يوليو أصول العمل الثوري المصري، دار النهضة القاهرة، 1970، ص 109.
(5)-حسين توفيق إبراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ص43.
(6) بير فيو، العنف والوضع الإنساني، في كتاب المجتمع والعنف: مجموعة من الاختصاصين، ترجمة الياس زحلاوي، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، 1985،(ص 148-149).
(7) -Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique et des mœurs, Paris, Librairie Delagrave, 1952.
(8) -Young India, 1919-1922, Madras, S. Ganesan Publisher, 1924, p. 286.
(9) -Kant, La religion dans les limites de la simple raison, Paris, Vrin, 1983, p. 84.
(10) -Eric Weil, Logique de la philosophie, Paris, Vrin, 1967, p. 20. 47.
(11) Eric Weil, Philosophie et réalité, Derniers essais et conférences, Paris, Vrin, 1982, p. 269.